هل لازال التواتر في السنة والأحاديث موجودٌ إلى يومنا هذا؟ أم انقطع من عصر تابعي التابعين؟
بالنسبة للتواتر الذي سميناه نقل الكافة عن الكافة فهذا موجودٌ إلى عصرنا الحاضر، مثل ما قلتُ عنترة ابن شداد، مازلنا حتى الآن نصدف بعنترة ابن شداد برغم أنه ليس هناك إسنادٌ، ولا أحدٌ ذكره في الكتب التي تروي بالإسناد بإسنادٍ صحيح، مثل هذه الأخبار نعم نحن نصدقها، وإن كان في هذا العصر نحن مضطرون إليه.
أما إذا كان المقصود عن طريق الرواية، يعني هل هناك أسانيد الآن تُروى بها الأحاديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم؟ فنقول نعم هناك أسانيد، لكن لو ذهبنا نطبق عليها الشروط التي ذكرها علماء الحديث مما سيأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى- فستنتهي هذه الأسانيد، لأن فيها مجاهيل، وفيها أشياء بالإجازة رديئة جدًا، فما المقصود إذًا من وجود هذه الأسانيد؟ قالوا المقصود بقاء شرف الإسناد أو خصيصة الإسناد فقط، هذا الذي يريده من يحتج بالأسانيد في هذا العصر، أما أن تُجرى عليها الإجراءات الموجودة عند علماء الحديث، فلا يمكن إجراؤها عليها؛ لأنها ستذهب برمتها.
ثمة عدد من الأسئلة يسأل عن إيراد بعض الأمثلة على الأحاديث المتواترة
أقول بالنسبة للأحاديث التي قيل عنها إنها متواترة، في الحقيقة أن :
1- هناك من قال إنه ليس هناك حديث متواتر، المتواتر قالوا إنه ليس من مباحث علم الإسناد، وهذا له شأن وعلم الإسناد له شأن آخر، فإذًا جميع الأحاديث يقولون عنها إنها أخبار آحاد، هذا قولٌ قيل.
2- وهناك من انتقد هذا التعريف، ولعل كلام الحافظ ابن الصلاح، وهو من أبرع من صنف في علم الحديث يوحي بهذا، لكنه استثنى، قال اللهم إلا أن يُقال في حديث ( من كذب عليّ متعمدًا.... )، يعني ما استثنى إلا حديثًا واحدًا، الله أكبر، يعني جميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تذهب بها الظنون، لا، حاشى لله، لكن المشكلة هي أن القضية برمتها تعود لنقد هذه الشروط، وسيتضح -إن شاء الله تعالى- مزيد أشياء حينما نتكلم عن خبر الواحد.
فبعضهم يرى أنه ليس هناك حديثٌ متواترٌ إلا حديث من كذب عليه متعمدًا، لكن هناك من رأى خلاف هذا، فالزركشي له مصنف، وإن لم يصل إلينا، أودع فيه قرابة خمسة وسبعين حديثًا يقول إنها متواترة، وبعضهم أوصلها إلى تسعين، بل السيوطي فيما أذكر أنه أوصلها إلى قرابة مائتي حديث متواتر.
لكن حينما ننظر في هذه الأحاديث نجد أنها باجتهاد هؤلاء الأئمة، فبعضها حقيقة يمكن أن يكون ضعيفًا، بل ضعيفًا جدًا، ربما كان بعضها موضوع، مما قيل عنه إنه متواتر.
ثمة سؤال، هل يكون المتواتر ضعيفًا؟
المتواتر في حقيقته بناءً على التعريف الذي ذُكر، لا، لا يكون ضعيفًا، لكن الخطأ في التطبيق، يعني السيوطي حينما طبق أخطأ في التطبيق، فحكم على أحاديث بأنها متواترة وهي لا تخرج عن كونها ضعيفة.
ويواصل الشيخ ذكر أمثلة على الأحاديث المتواترة:
3- من الأحاديث المتواترة أحاديث الشفاعة كما قلت .
4- وأحاديث الرؤية، لكن الذين ينازعون يقولون لا، هذه ليست متواترة، وهذا يجعلني أحتاط .
وأذكر أن المتواتر ينقسم إلى قسمين:
متواتر لفظي، ومتواتر معنوي، قالوا عن المتواتر اللفظي: هو ما ينقل بلفظه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل حديث ( من كذب عليّ متعمدًا )، والمتواتر المعنوي ما تعددت ألفاظه واختلف وقائعه لكن كلها تدل على معنًى واحد، فمثلا :
أحاديث الشفاعة، هي كثيرة ليست حديثًا واحدًا يُنقل بطرقٍ كثيرة، هي أحاديث كثيرة لكنها كلها تدل على معنًى واحد وهو إثبات الشفاعة، كذلك أحاديث الرؤية، وأحاديث كثيرة تدل على معنًى واحد وهو إثبات رؤية الباري جلّ وعلا في الدار الآخرة، كذلك أحاديث رفع اليدين عند الدعاء، هي أحاديث كثيرة كلها في مجملها تدل على مشروعية رفع اليدين عند الدعاء، لكنها ليست ذات لفظ واحد يُنقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
هل ألف أحد علماء الإسلام من السابقين أو من المعاصرين في جمع الأحاديث المتواترة لفظًا أو معنى؟ أنتم ذكرتم عددًا من السابقين. وما الرد على من لا يحتج بأحاديث الآحاد في العقيدة؟
أما بالنسبة للمؤلفات في المتواتر، فهناك بعض المؤلفات ولكن عليها ما عليها، مثل ما قلت عن كتاب السيوطي "الأزهار المتناثرة في الأحاديث الأخبار المتواترة" عليه ملاحظات في أن بعض الأحاديث التي ذكرها ووصفها بالتواتر بعضها لا يصح، وبعضها لا يُسلم بتواتره على هذه الشروط التي اشترطوها، فالكتب التي أُلفت في هذا حقيقةً لا أقول إنها كتب ناضجة، حتى في العصر الحديث، ليس هناك مؤلف أرى أنه مؤلف سالم من الاعتراضات.
بم أن المتواتر لم يتفقوا فيه على تعريف واحد، فالسؤال لماذا ظهرت هذه التعاريف؟ ولماذا أُحدث؟
هذا السؤال أجبتُ عليه في ثنايا كلامي، قلت إن هذه التعريفات إنما حدثت لقصد تضييق دائرة الاحتجاج بالأحاديث النبوية بسبب تلك المخلفات العقدية التي ورثها المعتزلة عن الأمم السابقة بعد أن تُرجمت كتب اليونان، فأصلوا من جرائها أصولهم الخمسة التي أشرنا إليها.
ذكر الحافظ في شرحه على النخبة أن الشروط الأربعة إذا توفرت أفاد الخبر العلم، ثم ذكر أنه قد يتخلف العلم لمانع، فهل إفادة العلم يدخل في شروط التواتر؟ أم أنه خارج الشروط؟ وما معنى أنه تخلف لمانع؟
الحافظ -رحمه الله- لما ذكر أن العلم قد يتخلف لمانع ما أوضح ما هو المانع الذي يمنع من وجود العلم، فكأنه جعل العلم شرطًا أو نتيجة لهذه الشروط الثلاثة، يعني كأنها شروطٌ ثلاثة لكنها تؤدي إلى إفادة العلم، وهو كثرة العدد، ووجود هذه الكثرة في كل طبقة من طبقات السند، وإسناد هذا إلى شيء محسوس، بعد ذلك هذا الخبر إذا أفاد العلم يصبح متواترًا، فكأن العلم نتيجة لهذه الشروط لهذه الشروط الثلاثة، ثم قال: قد يتخلف هذا لمانع، ما المانع؟ يمكن مثلا أن يكون العدد متوفرًا لكن لا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، كيف يمكن؟ نقول مثلا على فرض أنهم كانوا مجتمعين في مكانٍ ما، واتفقوا على اختلاق هذا الخبر، هذا مانع من الموانع التي تمنع جعل هذا الخبر متواترًا، ولعله يمكن أن يصدق على هذا ما قلناه عن حديث الطير، حديث الطير واضح فيه الصنعة، وأنه مختلق برغم كثرة الطرق إلى أنس ابن مالك رضي الله -تعالى عنه، فهنا شيءٌ يمنع من جعل هذه الكثرة تفيد العلم، السبب أن هناك ما يدل على أنهم اختلقوا هذا الخبر.
علماء الحديث يفرقون في الغريب، فيقولون مثلا إسناده ضعيف، وأحاينًا يقولون المعنى ضعيف لكن الإسناد صحيح؟ فهل يجتمع في حديث أنس أن سندها ضعيف وأيضًا متنها غريب؟ لأنكم يا شيخنا ذكرتم أن متنها يعارض حقيقة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب الناس إلى الله ثم أبو بكر، فهل يجتمع فيه الأمرين؟ قضية أن يكون الحديث مرويًّا بسند صحيح والمتن غير صحيح ونحو ذلك، هذه يأتي الكلام عليها -إن شاء الله تعالى- عما قريب حينما نتكلم عن الحديث الصحيح وشروط الحديث الصحيح، وذكروا من شروطه انتفاء العلة، سوف نتكلم عنها -إن شاء الله تعالى.
إذا كان هذا التعريف الموجود في كتب أهل الحديث من مدخلات المعتزلة، فكل ورد إلينا؟ وما معنى المنزلة بين منزلتين عند المعتزلة؟ لعلي أبدأ بالمنزلة بين منزلتين لأن الجواب عنها مختصر، نقول إن المعتزلة يتشددون في قضية المعاصي، وعلى وجه الخصوص الكبيرة، فمن ارتكتب كبيرة من المسلمين يرون أنه خرج عن دائرة الإسلام، ولكنه لم يدخل في دائرة الكفر، فهو في منزلة بين الكفر والإيمان، يسمون هذه المنزلة منزلة الفسق، لكن ليس الفسق الذي يعنيه أهل السنة وهو أن مرتكب الكبيرة فاسق بعصيانه مؤمن بإيمانه، لا، هم لا يقولون إنه مؤمن، يقولون إنه خرج من دائرة الإيمان حتمًا لكن لم يدخل في دائرة الكفر، هذا المقصود بالمنزلة بين منزلتين عند المعتزلة.
أما بالنسبة للسؤال لماذا دخل هذا التعريف في كتب مصطلح الحديث؟
ففي الحقيقة السؤال مهم وجيد، ولذلك أرعوني سمعكم، فأقول إن كتب الحديث في الأصل لم يدخل فيها هذا التعريف .
لو نظرنا للسرد التاريخي الذي ذكرناه في الدرس الماضي ، فعلى سبيل المثال :
مقدمة صحيح مسلم ليس فيها كلام عن المتواتر والآحاد .
العلل الصغير للترمذي ليس فيه هذا الكلام .
الحدث الفاصل للرامهرمزي ليس فيه هذا الكلام .
معرفة علوم الحديث للحاكم ليس فيه هذا الكلام، وهكذا.
هذا الكلام دخل تقريبًا من عصر الخطيب البغدادي، لكن ليس بالصفة التي وُجدت بعد ابن الصلاح، في عصر الخطيب البغدادي بدأ هذا المصطلح يدخل، ما السبب؟
لأن علم أصول الفقه علم دخل فيه علم الكلام، وعلم الكلام هو الذي جاء فيه هذا التعريف أو هذا التفريق بين المتواتر والآحاد، فنجد أن أصول الفقه في الأعم الأغلب لا أحد يستطيع أن يأخذها حتى يدرس المنطق، فإذا درس المنطق استطاع أن يتلقى أصول الفقه، والمنطق كما نعرف أنه لم يكن في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لم يكن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عند صحابته، ولا عند التابعين لهم بإحسان، وإنما وُجد بعد دخول كتب اليونان عند المسلمين وبعد أن عُربت فدخل عليهم علم المنطق الذي هو من علوم اليونان، فصيغة كتب أصول الفقه بصياغات منطقية واستخدمت فيها عبارات منطقية، هذه العبارات جعلت هناك كلامًا في الأخبار والأحاديث بسبب وجود بعض القضايا المشتركة بين أصول الفقه ومصطلح الحديث، فلو رأينا مثلا كتاب الرسالة للإمام الشافعي، وهو كتاب من كتب أصول الفقه، وتضمن بعض مباحث علم الحديث كما أشرنا له في الدرس السابق، نجد أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى تكلم في قضايا مهمة جدًا في علم الحديث، مثل التدليس والاختلاق والحديث المرسل وغير هذه الأمور من القضايا الحديثية تكلم عنها الإمام الشافعي، فمن جملة ما تكلم فيه أخبار الآحاد، فرد على المعتزلة الذين لا يحتجون بخبر الواحد، وكتابه هذا يعد من أبرز ما صُنف في الرد على المعتزلة الذين لا يحتجون بخبر الواحد، والسبب أنه في عصر الشافعي ظهر هذا التفريق بين المتواتر والآحاد فاضطر الشافعي رحمه الله للرد عليهم. بعد هذا جاء بعض أهل العلم الذين درسوا أصول الفقه ودرسوا مصطلح الحديث، فحصل عندهم تداخل بين هذه المباحث المشتركة، بين أصول الفقه وبين مصطلح الحديث، فأدخلوا هذه القضايا التي كانت في كتب أصول الفقه، أدخلوها في مصطلح الحديث، من أول من صنع ذلك الخطيب البغدادي رحمه الله وإن لم يكن بالشكل الذي جاء بعد ذلك، جاء بعد هذا ابن الصلاح فأدخل أشياء أكثر من هذا، جاء بعده النووي فهو أكثر من أوغل في هذا، رحم الله الجميع. فالنووي هو من أكثر من أدخل هذه المذاهب في مصطلح الحديث، وتأسى بالنووي من جاء بعده بعد ذلك مثل الحافظ العراقي ابن حجر والسخاوي وغيرهم رحمهم الله. وصلى اللهم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.