أليس هناك تعارض بين قول الإمام ابن حزم -رحمه الله- أن التواتر قد يكون باثنين، وبين قولهم إن الاثنين يكون من قبيل المشهور؟
بعض الناس يستدرك على الحافظ ابن حجر في قضية العلم، ويقول: إن حتى الآحاد يفيد العلم، ولكنهم يطالبون ابن حجر بتقييد كلمة العلم، فهل هو يريد العلم الضروري أو اليقيني؟ أو أنه يقول: إفادة درجات حصول العلم؟
بالنسبة للمتواتر الذي عرف به الحافظ ابن حجر، على هذا التعريف لا يكون من مباحث الإسناد، لكن لا شك أن هناك تواتر نحتاج إليه في علم الحديث، فهل التواتر الذي يستعمله أهل الحديث في مصنفاتهم لا يُبحث فيه عن أحوال الرواة؟ وهل لقولهم "أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب" دخل في هذا التعريف عند أهل الحديث؟
معنى قول الحافظ عن المتواتر : "إن هذا ليس من مباحث علم الإسناد":
كلام الحافظ -رحمه الله- حينما قال: إن هذا ليس من مباحث علم الإسناد، هذا القول صحيح بالشيء الذي ذكرته أنا، وهو قضية الإجماع، وخبر الكافة كما قلت، وجريان العمل، هذا ليس من مباحث علم الإسناد؛ لأنه ليس عندنا إسنادٌ ننظر فيه، فعلم الحديث كما قلنا علم بأصول وقواعد يُدرى بها ماذا؟ حال السند والمتن من حيث القبول والرد، فإذًا لابد من وجود إسنادٌٍ عندنا، إن لم يكن هناك إسنادٌ فكيف نبحث في صحة هذا الخبر من عدمه، هذه تكون من مباحث مثلا إما علم الكلام أو أصول الفقه، أو كما قلت علم الاجتماع والتاريخ ونحو ذلك، نعم بهذه الصورة ليس من مباحث علم الإسناد.
لكن هناك أحاديثٌ أخرى هي التي رأى بعض أهل العلم أنها متواترة، فهذه لابد أن تكون مباحث علم الإسناد .
أنواع المتواتر من حيث الثبوت
فإذًا المتواتر عندنا نوعان،
النوع الأول: وهو ما يفيد العلم الضروري .
والنوع الثاني: وهو ما يفيد العلم النظري، هذا من حيث الثبوت .
أنواع المتواتر من حيث النوع
أما من حيث النوع أيضًا المتواتر ينقسم إلى نوعين:
النوع الأول: متواتر لفظي .
والنوع الثاني: متواترٌ معنوي، سنأتي -إن شاء الله تعالى- عليها.
ما هو العلم الضروري ؟
نتكلم الآن على قضية العلم الضروري، والعلم النظري .
العلم الضروري ما هو؟
العلم الضروري هو الذي يضطر صاحبه إلى التصديق، لابد أن يصدق .
مثلما قلت عن وجود عنترة بن شداد، أو بلد من البلدان، على سبيل المثال: يمكن كثير منا ما رأى استراليا، لكن هل يشك أحدٌ منا أن هناك قارة يُقال لها استراليا، وأن وهناك ناسًا يعيشون وألوانهم بيض ونحو ذلك، ما أحد يشك منا في وجود استراليا مع أننا ما رأيناها، اللهم إن كان عن طريق الصور، دعونا نقول: قبل وجود الصور، كانت هناك أخبار تتناقل عن البلدان، على سبيل المثال: عند أسلافنا الذين كانوا مثلا في القرن الثاني والثالث ونحو ذلك، كانوا يعرفون أن هناك بلدانًا ويصدقون بوجودها مع أنهم ما رأوها، ولا يشكون في وجود هذه البلدان، كيف استطاعوا إذًا التصديق بوجود مثل هذا العلم الذي يضطر صاحبه إلى التصديق به، وهو ما يسمى بالعلم الضروري؟ فليس أمامك أسانيد حتى تبحث بها وتفتش، فذلك يصدق عليه كلام الحافظ ابن حجر أنه ليس من مباحث علم الإسناد.
لكن إذا جاءتنا أحاديث كثيرة، مثل ما ضربوا له مثالا بحديث ( من كذب علي متعمدًا )، فإذًا لابد من وجود علم الإسناد حتى نبحث في هذه القضايا، لذلك كيف استطعنا أن نعرف أن حديث الطير...؟ حديث الطير ربما أحدكم يسأل عنه، حديث الطير هو حديث يقولون: إن أنسًا رضي الله عنه يقول: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأُهدي له طيرٌ مشوي، فقال "اللهم ائتني بأحب خلقك يأكل معي من هذا الطير" قال: فإذا بالباب يُطرق فقلت في نفسي اللهم اجعله امرءًا من الأنصار، فلما فتح الباب فإذا بعلي رضي الله عنه، قال: فقلتُ: النبي -صلى الله عليه وسلم- على حاجة، يعني لا يريد هذه المزية وهذه الفضيلة لعلي -رضي الله عنه، يريدها لرجل من الأنصار؛ لأنه من الأنصار، فانصرف علي -رضي الله عنه، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- مرةً أخرى، وإذا بالباب يُطرق ويكون عليًّا -رضي الله عنه، ويعيد أنس نفس الأمنية أو نفس الدعاء، وهكذا ثلاث مرات، وفي الرابعة دفع عليٌّ -رضي الله عنه- في صدر أنس ودخل بعنف، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- "ما أبطأ بك"، فقال يا رسول الله هذه رابع مرة أطرق فيها، ويقول لي أنس كيت وكيت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:" ما حملك على ما صنعت يا أنس؟" فقال: يا رسول الله رجوت أن يكون امرءًا من الأنصار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:" إن الرجل قد يحب قومه".
هذا الحديث مفاده أن عليًّا -رضي الله عنه- أحب إلى الله أيضًا حتى من النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يقول: "بأحب خلقك إليك"، فلم يستثن حتى نفسه -صلى الله عليه وسلم، ثم هذا الحديث ينافي ما ثبت من الأحاديث الصحيحة في أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها هو أبو بكرٍ -رضي الله عنه- ثم عمر ثم عثمان أيضًا، وكان عليًّ -رضي الله عنه- يعترف بهذه الفضيلة لهؤلاء الخلفاء -رضي الله عنهم أجمعين، فإذًا هذا الحديث رغم كثرة الطرق إليه إلا أننا نقول: إنه حديثٌ غير صحيح.
نعود لما كنا فيه، كيف استطعنا أن نعرف إنه غير صحيح؟ عن طريق الإسناد، فتشنا في الأسانيد فوجدنا أن جميع الأسانيد لا تصح، كلها معلولة، ولذلك نقدها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية نقدًا مبرمًا.
فهذا الذي يقول بعضهم إنه من مباحث علم الإسناد، وبعضهم يقول إنه ليس من مباحث علم الإسناد، فالذي ليس من مباحث علم الإسناد ويفرض علينا تصديق هذا يُسمى العلم الضروري، والذي من مباحث علم الإسناد ويكتشف بعد البحث أن طرقه ثابتة وصحيحة مثل أحاديث الشفاعة، أحاديث الرؤية، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة، هذه نقول إنها أحاديث متواترة، كيف استطعنا أن نعرف أنها متواترة؟ من خلال مباحث علم الإسناد.
ما العلم الذي يفيدنا من هذا التواتر ؟
يفيدنا العلم، لكنه العلم النظري، أي الناشئ بعد النظر والتتبع والاستقراء.
إذًا ما التعريف المختار للمتواتر؟
أقول إن التعريف المختار للمتواتر هو كل خبرٍ يفيد العلم، وإفادةُ الخبرِ العلمُ إما أن تكون بقرائن محتفة، أو بما سميناه خبر الكافة عن الكافة ونحو ذلك، فالذي يحتاج إلى نظر في الأسانيد هذا لابد وأن تكون هناك قرائن تحتف بالخبر، هذه القرائن إذا احتفت أفادنا ذلك الخبر العلم، ولعلنا نكمل التعريف وكلام فيه حينما نتكلم عن خبر الآحاد، لأن الكلام مرتبط بعضه ببعض، فلو دخلت الآن في هذا سأضطر للكلام في خبر الآحاد، إذًا نؤجل ضبط التعريف حتى نتكلم عن الآحاد، بعد ذلك يتضح لنا التعريف للمجمل للآحاد وللمتواتر.
شيخنا الفاضل، ما خصائص كتاب ابن دقيق في كتاب الأحكام؟
يبدو أن الأخ يسأل عن كتاب ابن دقيق العيد الذي هو "الإلمام في معرفة أحاديث الأحكام"، كتاب الإمام لابن دقيق العيد رحمه الله أراد في هذا الكتاب أن يجمع جميع أحاديث الأحكام مع التفصيل الدقيق في تخريجها والحكم عليها، وبعد ذلك استل ابن دقيق العيد خلاصة هذا الكتاب وأودعها في كتابه الإلمام، الإلمام يشبه إلى حد كبير مثلا بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، أما كتاب الإمام فإنه أسهب وأطال في التخريج، هذا الكتاب لم يصل إلينا كاملا، وإنما وصل إلينا كتاب الطهارة منه على نقصٍ فيه أيضًا وبعض كتاب الصلاة، والبقية مفقودة.
هل كل من وقع في خطأ يُنسب إليه؟ أم العبرة بالمنهج العام للشخص وما عُرف به؟
نقول: إن الشخص الذي له منهج يُعرف عنه، فالذي يسير على منهج مثلاً المعتزلة أو المدرسة العقلية في العصر الحاضر التي هي استمرار لتيار المعتزلة، نعم هذا الإنسان نعرف هذا المنهج الذي عنده، ونحذر الناس من هذا المنهج حتى لا يغتروا به، لكن إذا كان الرجل منضبطًا بأصول أهل السنة ولو بالجملة ، وقد تبدو منه بعض الهفوات، فما من إمام من الأئمة إلا وقد أخطأ، ولو ذهبنا نتتبع هفوات الأئمة وأخطاءهم لطال بنا الأمر ولما بقي لنا أحدٌ ألبتة.
ما أقل عدد من الرواة في المتواتر؟ وهل يختلف حسب الأحوال؟
ألا يتوقف حصر العدد بالعرف؟
هل يُفهم من كلامكم أن الخلاف بين المتواتر والآحاد خلاف نظري ليس له أثر في الواقع العملي؟
لا، بلى له رصيد في الواقع العملي، وسنبينه -إن شاء الله تعالى، لكن أنا أجد هذه الأسئلة كلها تضطرني للدخول في خبر الواحد، لكن أنا أفضل أن نرجئه حتى نتكلم عن خبر الآحاد، ثم بعد ذلك -إن شاء الله تعالى- نستكمل البقية.
فأنا بودي أن تكون الأسئلة متعلقة بما سبق أن طُرح بما يتعلق بشروط المتواتر والكلام فيها ونحو هذا، أما القضايا الأخرى فنرجئها إن شاء الله تعالى حينما نتكلم عن خبر الواحد.
هل الخبر المتواتر هو الذي يرويه عددٌ كثيرٌ وعدده معروف أم غير معروف؟
نحن قلنا: إن الصواب أنه بغير حصر بعدد معين، ومن اشترط العدد فهذا عنده من التناقض ما ذكرناه، وليس عند من اشترط العدد أي دليل على هذا.
السؤال عن قضية فصل السنة عن القرآن، هل علم الحديث مُسند بآيات من القرآن الكريم لتأكيد صحتها؟ وهل تفسير القرآن الكريم مُسند بعلم الحديث؟
على كل حال السؤال فيما أرى أنه يحتمل معنيين، إما أنه يقصد هذا تفسير القرآن يكون بأحاديث مسندة وبآثار مسندة، فنعم، ويمكن أيضًا أن يكون بغير ذلك كلغة العرب، وكما هو موضح في أصول التفسير، وهذا بلا شك أنه خارج الموضوع.
وهل الأحاديث تُفيد في تفسير الآيات؟
بلا شك أن أول ما يُفسر به القرآن القرآن نفسه، كما صنع الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان، ثم بما صح من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين، ثم بلغة العرب، هذا هي القواعد التي ينبغي أن يتماشى بها لتفسير القرآن.
وبالمناسبة حتى لا يخل الموضع من الفائدة، من أراد من الإخوة أن يقرأ في هذا الموقع -إذا كان يهمه- فأنصحه بالقراءة في بعض الكتب، أولها كتاب إحكام الأحكام لابن حزم، فابن حزم -رحمه- الله ممن أطال النفس في هذا الموضوع في مبحث المتواتر، ونقد هذه التعاريف وبين ما فيها من خلل، الثاني الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، بالذات في المجلد الثامن عشر في صفحة خمسين فما بعد، وربما ابتدأ الكلام عنها قبل صفحة خمسين، فمن يفتح في صفحة خمسين وما قبل وما بعد سيجد كلام شيخ الإسلام في المتواتر ونقده، وفيه التقاء إلى حدٍ كبير مع كلام ابن حزم.
كذلك ابن القيم رحمه الله في الصواعق، لكن المشكلة أن كتاب الصواعق المطبوع الآن ناقص فليس فيه هذا المبحث، لكنه موجودٌ في مختصر الصواعق، وهو مطبوعٌ أيضًا، فمختصر الصواعق موجود فيه كلام ابن القيم رحمه الله في المتواتر والآحاد.
ومن أبدع ما هنالك رسالة شيخنا الشيخ عبد الله الجبرين -حفظه الله- في أخبار الآحاد، فإنها رائعة وجيدة فأنصح بالرجوع إليها.
هل اعتمد العلماء الشروط التي ذكرتموها في تحقيق أقوال الصحابة؟ وهل هناك كتب في صحيح أقوال الصحابة وضعيفها؟
أقوال الصحابة إذا كان المقصود هل يجري فيها أيضًا التواتر، فالتواتر يشمل كل خبر، لذلك قلنا إن الحافظ ابن حجر اختار هذه اللفظة قصدًا، وبين أنه قصد هذه اللفظة وهو كلامه عن الخبر، فيقول الخبر سواء عن الصحابة أو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن التابعين أو عن الأمم السابقة، أي خبر أنت مضطر للتعامل معه وفق هذه الأمور التي ذكرها.
أما بالنسبة لهل أخذ أقوال الصحابة وربما أيضًا كانت تقصد التابعين ما صح منها مما لم يصح، أقول لا أعرف هناك مصنفًا فرز الصحيح من الضعيف من أقوال الصحابة، ويبدو أن الأخت تقصد هل صنع هذا أحدٌ مثل ما صنع مثلا البخاري ومسلم بأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم، أو كما صنع الشيخ الألباني -رحمه الله- حينما صنف صحيح الجامع وضعيف الجامع والسلسلة الصحيحة والسلسلة الضعيفة، أقول لا أعرف أحدًا أفرد أقوال الصحابة صحيحها من ضعيفها.
ما الفرق بين الشهادة والخبر؟
هناك فرقٌ بين الشهادة والخبر، وهذه الفروق تكلم عنها أيضًا ابن حزم، يعني لو أمكن للأخ السائل أن يرجع إليه لكان أفضل، لكن أُجمل الفروق في الآتي :
1- فالشهادة لابد فيها من اثنين، والخبر يُكتفى فيه بواحد .
2- فالشهادة يشترطون فيها شروطًا، مثلا لا تُقبل عندهم شهادة العبد .
3- شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل، أما بالنسبة للخبر فالأمر سيان، فيُقبل خبر الواحد سواءً كان عبدًا أو امرأة أو رجلا أو غير ذلك.
وهناك فروقٌ بين الرواية والشهادة ذكرها الخطيب البغدادي -رحمه الله- في كتابه الكفاية، يمكن لم أراد التوسع أن يرجع إليه.