السبب في نشأة هذا التعريف
بل الأدلة الشرعية التي دلت على خلاف هذا سيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكرها بعد أن أقول إننا محتاجون إلى النظر في مفردات هذا التعريف، والسبب في نشأة هذا التعريف، السبب في حقيقة الأمر أن المعتزلة رأوا أهل السنة يحتجون بأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته الكرام -رضي الله تعالى عنهم- تخالف ما هم عليه من المعتقد، فعلى سبيل المثال: من أهم القضايا التي يتكلم فيها المعتزلة قضية الصفات، فهم ينكرون جميع الصفات، فإذا جاءت نصوص شرعية من كتاب الله أولوها، لكن إذا جاءت أحاديث نبوية تفسر القرآن وتوضحه ولا يمكن أن يتأولوها مثل ما تأولوا القرآن، فإنهم يقفون حائرين أمام هذه الأدلة الشرعية، ماذا يصنعون تجاهها؟ فأوجدوا هذا التقسيم، فقالوا: نحن نفرق بين المتواتر والآحاد، فإذا كان الخبر الذي جاء عن -النبي صلى الله عليه وسلم- متواترًا قبلناه، وإذا كان آحادًا وهو ما سوى المتواتر رفضناه في أبواب الاعتقاد، فهم يحكمهم الهوى، فلا يقبلون من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ما لم يتعرض لأصولهم.
والمعتزلة لهم أصولٌ خمسة معروفة وهي:
التوحيد .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الوعد والوعيد .
المنزلة بين منزلتين .
والعدل.
هذه خمسة أصول للمعتزلة، بطبيعة الحال بعض هذه الأصول براقة قد يُغتر بها مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
لكنهم يقصدون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ماذا؟ الخروج على ولاة الجور .
يقصدون بالعدل نفي القدر .
يقصدون بالتوحيد نفي الصفات ... وهكذا .
فعلى كل حال أصول المعتزلة هذه وجدوا أن هناك أحاديث تنقضها، فماذا يصنعون مع هذه الأحاديث حتى تبقى لهم أصولهم التي أَصَّلُوها بُناءً على حجج عقلية؟ ذهبوا يُحْدِثُونَ مثل هذا التقسيم؛ ليردوا الأدلة التي لا تتوافق مع معتقداتهم، هذا هو السبب في الأساس، ولذلك قالوا نحن لا نقبل إلا المتواتر؛ لأن المتواتر هو الذي يفيد اليقين، والاعتقاد لا نأخذ فيه إلا بما هو يقيني، ولا نأخذ إلا بما هو ظني، وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن.
يمكن على الأقل أن نقول لا بأس، لعله يسلم لنا جملة من الأحاديث مما يمكن أن تكون متواترة، لكن أيضًا ذهبوا يتحكمون في المتواتر، فالمشكلة في المتواتر التعريف، فالمتواتر لم يتفقوا فيه على تعريفٍ معين، وأشهر تعريف هو الذي ذكرته لكم، لكن هناك أقوال كثيرة في تعريف المتواتر، يمكن تصل هذه الأقوال إلى قرابة عشرة أقوال في تعريف المتواتر، لكن أشهر هذه الأقوال هذا التعريف الذي ذكرناه، وهو الذي انتشر واشتهر في كتب أصول الفقه وكتب العقائد.
لكن هذا التعريف الذي نتحدث عنه إذا ابتدأنا في لفظه جزئية جزئية، فإننا يمكن أن نعرف خبايا هذا التعريف وإلى ماذا يريد أن يصل؟
ما حد الكثرة في تعريف المتواتر
فأول شرط من هذه الشروط قلنا فيه: إنه كثرة العدد، ما ضابط هذه الكثرة؟
أو ما حد هذه الكثرة؟
هنا اضطربوا اضطرابًا كثيرًا :
1- وهو الذي جعل كثيرًا من الأئمة يرفض التقيد بعدد، فبعضهم قال: متى ما حصرت بعدد فهذا غير متواتر، يعني لابد أن يكون المتواتر غير محصور بعدد معين، يعني لو قلت مثلا إن الذين نقلوا الخبر مليون فيقول إنه غير متواتر؛ لأنه متى حُصر العدد بحاصر فهذا يعني أنه لم يتواتر، إذًا فلابد أن يكون الخبر نُقل بعدد غير محصور، هذا قول قيل.
2- قولٌ آخر: أنه لابد أن يذكر هذا الخبر كل من بين المشرق والمغرب، وهذا قريبٌ من القول الأول.
3- الذين ابتدءوا يحددون بحد قال بعضهم: ثلاثمائة وأربعة عشر، يعني عدة أهل بدر .
4- بعضهم قال: مائة .
5- بعضهم قال: لابد أن يكون العدد سبعين .
6- بعضهم قال: خمسين .
7- بعضهم قال: أربعين .
8- بعضهم قال: عشرين .
9- بعضهم قال: اثني عشر .
10- بعضهم قال: عشرة .
11- وأخذوا يتنزلون إلى أن قال بعضهم: يمكن أن يكون متواترًا باثنين، بعضهم قال: ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، وهكذا.
فهي أقوالٌ مضطربة لا دليل عليها البتة، بعضهم يستدل بأدلة عجيبة:
فبعضهم كما قلت استدل بعدة أهل بدر، ما دخل أهل بدر في المتواتر؟!! ليس هناك دخل.
وبعض الذين قالوا: مثلاً سبعين يستدلون بقول اللهِ جلَّ وعلا ﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ﴾ [الأعـراف: 155].
بعضهم قال: لابد وأن يكون العدد خمسين أخذًا من حديث القسامة، يعني لابد أن يُقسم عدد خمسين .
الذين قالوا أربعين قالوا: لأنه العدد الذي تُقام به صلاة الجمعة، وهكذا في أمثلة كثيرة جدًا.
فالشاهد أن العدد اضطربوا فيه اضطرابًا كثيرًا .
ولذلك يذهب بعض الذين يتكلمون في المتواتر إلى أنه ينبغي ألا يُحد بعدد معين، لكن هؤلاء ينقسمون إلى قسمين:
بعضهم يقول لابد وأن يكونوا كثرة، وهذه الكثرة لابد وأن تفيد العلم وتحيل العادة تواطؤهم على الكذب .
وبعضهم يتريث في هذا، فمثلا ابن حزم -رحمه الله- هو أجود من حدد هذا العدد، فابن حزم يرى أنه يمكن أن يكون التواتر باثنين، يقول: لو أنك أتيت برجلين وأدخلت كل واحدٍ منهما في غرفة، وأغلقت على هذا وأغلقت على هذا، وهذا أخبرك بخبر وهذا أخبرك بخبر جديد، لم يتفقا عليه، أنت وضعت هذا في مكان وهذا في مكان، فبلا شك أن هؤلاء يستحيل عادة أن يتواطأ هذان الاثنان على اختلاف هذا الخبر الذي أخبراك به، ولذلك ابن حزم يقول: نحن وجدنا فيما نشاهد من الواقع -على سبيل المثال- الشعراء، يستحيل أن تجد شاعرين أو أكثر يتفقان على أبياتٍ إلا أن يكون لها أصولا، إما أن يكون أحدٌ منهم سمع الآخر، أو يكون كل واحد منهم سرق البيت من شاعر سابق فاتفقوا، أما أن تكون هذه الأبيات مستحدثة جديدة فيستحيل أن تجد شاعرين يختلقان أبياتًا بهذه الصفة.
فالشاهد أن كثرة العدد لا يمكن أن تكون منضبطة في مثل هذا الموضوع، إذًا فما الذي ينضبط؟
نقول: الذي ينضبط هو الضوابط الأخرى، وهي إفادة العلم مع ضوابط الشريعة، كما قلنا: نحن ننظر إلى الأدلة الشرعية، فمثلا :
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما جاءه أبو موسى الأشعري يستأذنه وضرب عليه الباب ثلاث مرات، فلم يفتح عمر ، انصرف أبو موسى، ففتح عمر الباب بعد ذلك فاستدعاه وقال له: لماذا انصرفت؟ فقال: لأني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ( إذا استأذن أحدكم فليستأذن ثلاث مرات، فإن أُذن له، وإلا فليرجع )، فقال له عمر: إما أن تأتيني ببينة أو لأوجعنك ضربًا، فذهب أبو موسى الأشعري وهو منتقع اللون حتى جاء إلى مجلس من مجالس الأنصار فوجد فيه جمعًا، فوجدوه منتقع اللون فسألوه عن الخبر، فأخبرهم بالخبر الذي جرى له مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، فقال: هل منكم أحدٌ سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا، قالوا: كلنا سمعناه، لكن -والله- لا يذهب معك إلا أصغرنا، وكان أصغرهم أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه، فذهب وشهد معه، فقال له عمر: أما إني لم أتهمك ولكني أحببت أن أتثبت.
فإذًا عمر -رضي الله عنه- قبل الخبر الآن بشهادة واحد، وما قال: إنك ما قامت بك الحجة، ولا يمكن أن أصدق، النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا -رضي الله عنه- إلى أهل اليمن، بعثه وهو واحد، وبعثه بأصول الاعتقاد، ( إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله..... ) إلى أخر الحديث، هذه أصول الاعتقاد وأهم المهمات: تعريفهم بدين الإسلام، وهو واحد، وما قال أهل اليمن: إنك واحدٌ، والواحد لا تقوم به حجة، وخبرك خبرٌ ظني لا يمكن أن نتيقنه، ما قالوا هذا لأنهم أناسٌ سليمي الفطرة، ففطرهم سليمة لم تتلوث بهذه الملوثات الكلامية.
الشرط الثاني ، والثالث من شروط المتواتر ونقضه
من المساوئ التي في هذا التعريف -الشرط الثاني: وهو أن تكون هذه الكثرة في جميع طبقات السند مع التعريف الثالث: وهو أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب .
فنسأل أصحاب هذا التعريف ونقول: هل يمكن أن ينطبق هذا التعريف على صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟
لا شك أنهم سيقولون: نعم لأنهم لا يقولون عن حديثٍ يرويه صحابي ويرويه عن هذا الصحابي مثلا ألف: إنه حديثٌ متواتر، يقولون: الكثرة لم تتوافر في طبقة الصحابة فلا يسمونه متواترًا، هذا بإجماعهم، لم يقل أحدٌ منهم إن الخبر الذي بهذه الصفة يكون متواترًا.
لماذا لا يكون متواترًا؟ لأنهم لا ينفون عن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتواطئوا على الكذب، وهذا في حقيقته من أبشع ما تضمنه هذا التعريف؛ لأنه فيه سوء أدب مع صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يُنقد هذا التعريف من هذه الحيثية مع مجمل أصول اعتقاد أهل السنة، فلا يُسَلَّم بهذا التعريف، وينبغي أن يحرر، من يرتضيه ينبغي أن يحرر هذه النقطة حتى يخلص منها.
القضية بلا شك أنها شائكة، لكن الحافظ ابن حجر نفسه في الشرح أخذ من هذا الموضوع عدة أوراق وهو يتكلم عن هذا الموضوع، فعلى كل حال، هو -إن شاء الله تعالى- معنا في درسنا.
إذًا نقول إن هذا التعريف لابد أن يُنقد من هذه الحيثية، فهي قضية مهمة جدًا، بالإضافة إلى شيء آخر، وهو أننا جربنا على الأخبار أننا قد يأتينا خبر عن طريق اثنين فيكون مفيدًا للعلم اليقيني، وقد يأتينا خبر من قرابة مائة طريق ومع ذلك نقطع أنه كذب، فمثلا :
حديث الطير، هذا الحديث مروي عن أنس بن مالك من قرابة مائة طريق، لكن كل طرقه فيها قدح، ولذلك حكم عليه كثيرٌ من أهل العلم بالوضع، حديث الطير ما تعتبره بتعدد الطرق إلى أنس بن مالك، لأنه ما من طريق إلا وفيها ما يقدح فيها بقادح شديد.
لكن حديث عمر بن الخطاب ( إنما الأعمال بالنيات ) وهو حديث واحد، أخرجوه في الصحاح، وما تردد أحدٌ من القول بأن هذا الحديث صحيح .
فانظروا كيف مائة طريق ما اعتبروا بها، وطريق واحد أخذوه وقالوا إنه صحيح، فهذا يدل على أن هذه المقاييس مقاييس غير صحيحة.
إذًا لابد وأن يكون هناك قرائن، كما سيأتي معنا -إن شاء الله تعالى- حينما نتكلم عن خبر الآحاد، ويذكر الحافظ ابن حجر القرائن التي إذا احتفت بخبر الآحاد، فإنها تجعله يفيد العلم.
الشرط الأخير :
حتى نخلص من هذه القضية قولهم: "وأسندوه إلى شيءٍ محسوس"، أي إلى شيء يُدرك بالحواس، فيخرج من ذلك ما يمكن يدرك بالظنون مثل النظريات التي تُستحدث الآن، مثلا :
نظرية دارون، كانت هذه النظرية شائعة وفشت بشكلٍ كبير، ثم بعد ذلك تهاوت بتهاوي الجهة التي كانت متبنية لها، فمثل هذه النظرية لو قال بها أكثر من واحد فإنها لا تفيد العلم؛ لأن هذه النظرية إنما نشأت من غير حس، وإنما من مجرد ظنون.
بقي أن نقول: هل يمكن أن يكون هناك شيءٌ متواتر؟
نقول نعم، أهل العلم يسمون الأخبار بتسميات، فيقولون: خبر الكافة، هذا نجده عند الإمام الشافعي رحمه الله وعند غيره من أهل العلم .
خبر الكافة ما هو؟
هو الذي يُتناقل من كافة الناس إلى من بعدهم وهكذا، هذا يُشبه ما نسميه بقضية الإجماع وجريان العمل، فإذا كان بهذه الصفة فنعم، فعندنا على سبيل المثال النبي -صلى الله عليه وسلم- والصلاة وعددها وعدد ركعاتها والزكاة ونحو ذلك، هذه كيف صدقنا بها كحكم؟ إنما صدقنا بها؛ لأنها جاءت بطريق النقل المتواتر الذي يُسمى خبر الكافة، يعني لا يحتاج هذا إلى إقامة دليل.
فلو ذهبت على سبيل المثال إلى شيءٍ أدق من هذا، مثل وجود عنترة بن شداد الرجل الشجاع في التاريخ، لو تطلبت إسنادًا لتقول أنا أريد إسنادًا صحيحًا يُثبت أن عنترة بن شداد موجود في الوجود بهذه الصفات التي ذُكرت عنه ما تجد إسنادًا، كذلك حاتم الطائي، لكن تجد أن الناس تناقلوا هذا الخبر وسلموا به، فلا أحد يكذب بأن في الوجود رجلا شجاعًا يُقال له عنترة بن شداد، فإذا الخبر تنوقل من كافة الناس إلى كافة الناس ممن جاء بعدهم.
لكن بعض الناس يريد أن يستخدم مثل هذا النقل الذي يُسمى بخبر الكافة؛ ليصل إلى شيءٍ آخر رديء، وهو أن بعض الناس يدعون الاكتفاء بالقرآن :
يقول يكفينا القرآن ولسنا بحاجة للسنة، إذًا فكيف نعرف عدد الصلوات في اليوم والليلة والتي هي خمس صلوات، وهذا لم يُذكر في القرآن؟! يقول نكتفي بالإجماع: وهو نقل الكافة عن الكافة إلى أن وصل إلينا، وهكذا كل القضايا الأخرى، فإذًا كم الذي سيبقى من الدين إذا اكتفي بهذا، ثم إنهم قد يُنازَعون أيضًا في هذا، قد يكون الشيء الذي يُدعى أنه خبر كافة في أصله خبر آحاد، فيلزمهم إذًا أن يقولوا برده كما قالوا برد غيره.
على كل حال لعله -إن شاء الله تعالى- من خلال الأسئلة يأتي شيء يتعلق بهذا، أيضًا يمكن أن نفصل فيه؛ لأن الاستطراد في هذا يمكن أن يكون فيه شيءٌ من الملل، وأنا أمامي عدة نقاط في الحقيقة كلها تتعلق بالموضوع، لكن لا أستطيع أن آتي عليها كلها لأجل الوقت.