كنا قد توقفنا يا شيخ عند الخبر والأثر والحديث، وبينتم أن الحافظ ابن حجر اختار لفظة الخبر لتشمل كل المرويات عن النبي -صلى الله عليه وسلم وغيره.
( الخبر: إما أن يكون له طرق بلا عدد معين، أومع حصر بما فوق الاثنين، أوبهما، أوبواحد.
فالأول: المتواتر المفيد للعلم اليقيني بشروطه.
والثاني: المشهور وهو المستفيض على رأي )
الخبر
قلنا-في الدرس السابق: إن الحافظ -رحمه الله-اختار لفظ الخبر، ونبه هو في شرحه على أنه قصد هذه اللفظة؛ لأنها أعم فتشمل كل ما يُروى من خبر، سواء كان هذا الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن غيره، وهذا الغير إما أن يكون من الأمم السالفة، أو من الصحابة، أو من التابعين، ومن جاء بعدهم، فهذا منهج ينبغي أن يُسار عليه، وهو الحكم على كل ما يمكن أن يُتلقى .
وهذا المنهج مهمٌ جدًا كما ذكرناه سابقًا لكل عالمٍ، لكل أحد، حتى في القضايا التي ترد فيما بيننا ، وبخاصة في بعض الأحيان التي يحتاج إليها الناس كوجود الفتن، نسأل الله السلامة منها، التي هي مرتعٌ خصب جدًا لوجود الشائعات، فيجب على الحريص على دينه، الذي يريد الحيطة لدينه، والسلامة من الوقوع في أعراض الناس أن يترسم هذا المنهج، وأن يجعله نصب عينيه، فلا يأخذ إلا ما دلت الدلائل على ثبوته عن كل أحد، ثم بعد ذلك يضيف إليه الأمور الباقية: من إحسان الظن، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وبين المحاسن والمساوئ، وغير ذلك مما هو مذكورٌ في مظانه، ولعلنا ننبه على شيء منه -إن شاء الله- تعالى- في ثنايا هذا الدرس.
فهذه اللفظة التي اختارها الحافظ ابن حجر لتشمل كل خبر، فيقول: إن الخبر من حيث وروده ينقسم إلى قسمين: متواتر وآحاد، هذا هو الخبر في الجملة، لا يخرج عن أحد هذين القسمين: إما متواتر، وإما آحاد، الآحاد سيأتي الكلام عنه -إن شاء الله -تعالى-
أما بالنسبة للخبر المتواتر فهو الذي سيستوعب علينا درسنا في هذه الليلة؛ لأهميته، ولكثرة الخلافة فيه.
تعريفُ الخَبَرِ المُتَوَاتِر
نقول بالنسبة للخبر المتواتر: أولا من حيث
التعريف اللغوي، يعرفه أهل اللغة: بأن المتواتر هو المتتابع، ولذلك إذا قيل تواتر المطر أو تتابع المطر.
أما بالنسبة للتعريف الاصطلاحي عندهم: فسأذكره الآن، ثم بعد ذلك نبدأ في مناقشة هذا وما يتعلق به، فيعرفون الخبر المتواتر بأنه "ما يرويه عددٌ كثير تحيل العادة تواطئهم على الكذب، وتكون هذه الكثرة في جميع طبقات السند، وأحالوه إلى شيءٍ محسوس" .
شروط الخبر المتواتر
فنستطيع من خلال هذا التعريف أن نستل أربعة شروط اشترطوها في تعريف الخبر المتواتر .
أول هذه الشروط: كثرة العدد .
ثاني هذه الشروط: توفر هذه الكثرة في جميع طبقات السند .
ثالث هذه الشروط : أن تحيل العادة تواطؤ هؤلاء الرواة على الكذب .
رابع هذه الشروط : أن يكون مستند هؤلاء الرواة الحس، أي لا الظن ولا النظريات ولا غير ذلك، إنما لابد أن يكون الخبر الذي يرون به ناشئًا عن حس، إما بالسماع أو بالمشاهدة، أو غير ذلك مما يدرك بالحواس.
نشأة التعريف
وسنتكلم -إن شاء الله -تعالى- عن مفردات هذا التعريف بشكلٍ يمكن أن يكون فيه شيءٌ من البسط، لكن بعد أن أقول إن نشأة هذا التعريف أو تقسيم الخبر بالمعنى الأدق إنما نشأت بعد ظهوور تيار المعتزلة، يعني في آخر القرن الثاني، فلو نظرنا في القرن الأول، وبداية القرن الثاني لا نجد لعلماء الحديث وغيرهم أيضًا من العلماء المعتبرين، لا نجد لهم كلامًا في هذا البتة، فلا يعرفون إلا الصحيح والضعيف، هل يثبت أو لا يثبت، أما هذه الشروط التي اشترطت في المتواتر، وهذا التعريف الذي ذُكر في المتواتر فلم يكونوا يعرفوه، من نازع في نازع في هذا الذي أقول، فهذه هي الكتب، موجودة، وهذه هي النقول، موجودة، فليذهب وليفتش، والوسائل المعينة والمساعدة الآن في الوقت الحاضر موجودة بحمد الله، كبرامج الحاسب الآلي، فليستعن بها وليذهب وليفتش وليبحث، فإذا وجد كلامًا يخالف ما ذكرتُ فليأتنا به، أنا ما أقول هذا الكلام إلا بعد سبر وتتبع وبحث طويلٌ في هذه القضية.
ما وجدت لأحدٍ من السلف كلامًا في هذا، وإنما وجدناه ظهر بعض ظهور تيار المعتزلة، لما ظهرت المعتزلة ظهر هذا المبحث، وبالذات بعد أن عُرِّبَت كتب اليونان، وتعرف أن كتب اليونان عُربت بعد مجيء الدولة العباسية، وعلى وجه الخصوص لما أنشأ المأمون دواوين لترجمة كتب اليونان إلى اللغة العربية، ففشى شرٌ كثيرٌ في الأمة أدى إلى انقسامها وإلى ظهور تلك الفتن والمحن والقلاقل التي حصلت بسبب الدخول في هذه القضايا الكلامية، ولذلك من ينظر في كتب الملل والنحل -كالفِصَل لابن حزم ونحو ذلك- يجد أن هذا المبحث مبحث من مباحث الأمم السابقة، ليس من مباحث أمة الإسلام في الأصل.
فهذا المبحث كان موجودًا عند اليهود وغيرهم ممن اضطروا إليه؛ لأنهم لم يكونوا ممن خصهم الله بهذه الخصيصة التي شرف الله بها الأمة المحمدية، وهي خصيصة ماذا؟ الإسناد، فالإسناد: من الخصائص التي شرف الله بها الأمة المحمدية، الأمم السابقة لم يكن عندهم الإسناد، لكنهم مضطرون إلى التعامل مع الأخبار تصديقًا وتكذيبًا في حياتهم، فيما يتلقونه من أخبار، أيضًا الأمم السابقة لهم، كيف يصدقون ويكذبون هذه الأخبار؟ لابد أن تكون عندهم موازين، وهذه الموازين لا حرج إذا وضعها الإنسان في حال الاحتياج إليها، لكن أن تكون قاضية على القضايا الشرعية التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، فهذا الذي نرفضه ونأباه.
فنعرف أن المؤرخين وغيرهم من علماء الاجتماع وغير ذلك أحيانًا يحدثون بعض التعريفات وبعض الأشياء التي تخدمهم فيما يتكلمون فيه، فعلى سبيل المثال ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، تكلم في قضايا مهمة جدًا اجتهد هو فيها من تلقاء نفسه مع الاستئناس مع ما يجده في واقع الناس، فهذا لا حرج عليه فيه، إذا لم يكن مخالفًا لنصوص الشرع .
كذلك الأمم السالفة اضطروا لإحداث مثل هذه التعريفات للتعامل مع الأخبار تصديقًا وتكذيبًا، ولعلي أوضح مرادهم ببعض الأمثلة، فعلى سبيل المثال : لو جاءنا شخصان ، أحدهما : نعرف يقينًا أنه جاء من المنطقة الشرقية، والآخر نعرف أنه جاء من المنطقة الغربية، وهذان نحن متيقنون أن كلا منهما لا يعرف الآخر إطلاقًا، فجاء كل واحد منهما وحدثنا بخبر شاهده، أي خبر من الأخبار؟ نعرف أنهما ما التقيا إطلاقًا، وهذا الخبر ربما انضاف إليه قرائن، كأن يكون خبرًا طويلا وفيه جزئيات وتفاصيل، يستحيل تمامًا أن يتفق هذان على شيء يمكن أن يتصوره أو يختلقه كل واحد منهما، ولذلك لما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية إن المتواتر في مثل هذه الصورة، أي إذا صدق الواحد الآخر وانتشر مثل هذا الخبر، يمكن أن يُقبل حتى من الكافر، يعني لا تُشترط فيه العدالة، هذا شيءٌ الناس يضطرون إلى تصديقه، إنسانٌ جاءك من مكان، وآخر جاءك من مكان، وأنت تعرف تمامًا أن كلا منهما ما لقي الآخر حتى وإن كانا كافرين، أو كانوا أكثر من اثنين كانوا كفارًا، قامت عندك قرائن تدل على صدقهم مع أنهم في الأصل قد يكذبون، لكن الكاذب قد يصدق في بعض الأحيان، كيف نستطيع أن نميز صدقه من كذبه إلا بمثل هذه القرائن.
لذلك حتى أقرب المعنى إلى الأذهان شيئًا فشيئًا، أود أن أطرح عليكم بعض الأسئلة، هل في واقعنا أشياء من هذه الحوادث مما نعيشه نحن؟ دعونا نحرك الأذهان ونعرف حتى نتوصل إلى حقيقة التعريف والمراد منه بكل وضوح وجلاء؛ لأن هذا يحتاج منا فعلا إلى تأمل، حتى لا يكون الواحد منا إمعة مقلد ونأخذ الكلام بإطلاق ولا نتمعن فيه ولا ندقق في محتوياته، لا، ينبغي أن نعمل أذهاننا في نقد التعاريف أو قبولها، فإذا كان بالإمكان أحد الإخوة يعطينا شيئاً من الواقع لمثل هذا.
الآن نجد بعض القصص تحدث، فمثلا شخص يبلغ عن أمر حدث في طرق معينة ويخبرك بتفاصيل معينة، لون السيارة مثلا أو شكلها، ويأتي شخصٌ آخر ويخبر عن نفس الخبر، وثالث، ورابع، يعني يختلفون، هذا لا يعرف هذا وهذا يُعرف عنه الكذب، لكنهم تطابقوا في الخبر، ووصلوا إلى استحالة كذبهم فنصدقهم في هذا
كنا نعرف أن هناك بعض المستشرقين والكفار يقدمون بعض الأشياء، ولا تخلو من الحقيقة، مثلا ما نراه في كتب الحديث الذين خدموا المستشرقين في المعجم المفهرس وألفاظ الحديث النبوي، هؤلاء قدموا شيئًا للإسلام، لكن لهم نوايا أخرى من خلال هذا التقديم للأمة المسلمة، لكن نحن -ولله الحمد- استفدنا كثيرًا من هذا المعجم، الأمة -ولله الحمد-أخذوا كثيرًا من هذه الكتب
بطبيعة الحال أنا أتكلم عن شيءٍ معين، لابأس بمثل هذا الإنصاف والعدل فيما قيل، لكن نحن نتكلم عن قضية الأخبار وما يتعلق بها، فدعوني أقرب المعنى للأذهان بشكل أوضح:
الواحد منا ولدته أمه بناءً على ما ذكروه، وفي تعريف المتواتر يمكن أن يشك الواحد في أصله، يشك هل هذه أمه أو لا، لماذا؟ من الذي قال: إنها أمه؟ كم عدد الذين أخبروه؟ أخبرته هي، وأخبره أبوه؟ ألا يُحتمل أن يكونا كاذبين؟ يعني نحن نتكلم الآن عن الشروط الذين وضعوها لقبول الخبر.
إذًا هذه الشروط حقيقةً إذا التُزم بها كما سنرى في نقدها، هي شروط يأباها العقل، يرفضها العقل، يمجها العقل، بالإضافة إلى وجود الأدلة الكثيرة من الشرع ترفضها وتأباها.
فعلى سبيل المثال: الرب -جلّ وعلا- تعبدنا بشهادة شاهدين اثنين، هذان الشاهدان لو جاءا يشهدان على أن خالدًا من الناس قتل سعيدًا، فقط شاهدان، هل يمكن أن نقتل خالدًا بشهادة هذين الاثنين؟ نعم، يحكم قاضي بقتل خالد بشهادة هذين الاثنين، الله أكبر، يعني يمكن أن يُقتل رجل بشهادة اثنين لم يصلا إلى حد التواتر؟ لأنه إن لم يصل إلى حد التواتر كما سنرى عندهم فالخبر ظني، يعني ليس يقينيًّا، يعني يقولون إن الخبر اليقيني، أو الذي يفيد اليقين هو المتواتر فقط، فلذلك مثل هذا لا يمكن أن يحصل في شريعة الله، الدماء تراق بهذا .
بل تُستباح النساء، لو أن رجلا في معركة من المعارك فُقد وما عاد مع الجيش، ماذا تتصورون أن يحصل لهذا الرجل في حال فقده في هذه المعركة؟ ما الذي يمكن أن يحصل له؟ قد يكون قتل، أو أُسر، وهناك توقعاتٌ أخرى، ويمكن أن يكون سقط ففقد ذاكرته فتاه، وهذا يحصل لأناس، فكل هذه الاحتمالات موجودة، فلو جاءنا رجلٌ واحدٌ، فقال: أنا رأيته مقتولا وأخبر زوجته وأهله وذويه، هل تعتد زوجته؟ وهل يجوز لها أن تنكح؟ قد يكون فيها خلافٌ إذا كان المخبر واحدًا، لكن دعونا نقول إن المخبر اثنان، والاثنان والواحد عند أصحاب هذا التعريف سيان ، فإذا كان الذي أخبر بهذا الخبر اثنين فهل يمكن لهذه الزوجة أن تعتد وأن تنكح زوجًا غيره؟ نعم، سبحان الله أيحصل هذا بشيءٍ ظني تيقناه، مُحال في شريعة الله -تبارك وتعالى- يحصل هذا، وهلم جره في أخبار شتى.