الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
عقيدة الإمام
أقول: استمعنا إلى سؤال الأخ الرحماني من فرنسا - وفَّقَهُ الله -، والذي سأل فيه عن عقيدة الحافظ ابن حجر -رحمه الله، وأقول: إن الحافظ ابن حجر بشرٌ كبقية البشر، وكل البشر يخطئون ويصيبون، ولكن من كان من الأئمة خطؤه أكثر من صوابه، فهذا الذي ينبه على أخطائه، لكن من غير أن يطول ذلك شخصه، أو يؤثر على أخذ علمه، ولذلك سأنبه على قضية تربوية نستلُّها من دراستنا لهذا الفن -مصطلح الحديث-، بل هو منهج عند علماء الحديث كما سأنبه عليه -إن شاء الله تعالى، ولكن بعد التذكير بما تضمنه سؤال الأخ الرحماني وفقه الله.
فأقول: إن الحافظ ابن حجر مجتهد، فبعضهم ربما قال: إنه أشعريٌّ في معتقده، ونقول:
إن الحافظ أحيانًا يوافق الأشاعرة في بعض ما ذهبوا إليه: من نفي بعض الصفات، أو بعض المسائل الأخرى التي عُرفت عن الأشاعرة، كقضية التحسيني والتقبيحي، ونحو ذلك، وربما أيضًا في مسائل الإيمان التي شابه فيها الأشاعرة والمرجئة، وعندهم نوعٌ من الإرجاء.
لكن هناك قضايا أخرى عند الحافظ ابن حجر نجده فيها يخالف الأشاعرة، ويوافق أهل السنة، فهذا دليلٌ على أنه -رحمه الله- ليس مقلدًا، ولكنه اجتهد، فمن اجتهد فأخطأ، فكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: ( من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد ) فمثل هؤلاء الأئمة تطوى زلاتهم ولا تروى، ولا ينبغي أن تذكر إلا من متجردٍ للحق راغبًا في التنبيه على الخطأ حتى لا يقع فيه أحدٌ، أما إذا كان يريد أن يُنتَقَصُ ذلك الإمام، أو يقدح في شخصه، فهذا كما قال: الحافظ ابن عساكر -رحمه الله: "إن لحوم العلماء مسمومة، وسنة الله -جلّ وعلا- في منتهكهم معلومة"، وله كلامٌ في هذا مسجوع أن من أرادهم بالثلب ابتلاه الله بموت القلب أو نحو ذلك، على كل حال.
القاعدة التي جرى عليها علماء الحديث أن العالم الذي كثر خيره، وكثرت حسناته، وكثرت إصابته؛ يجب أن يقدر، وأن يحترم وأن يعرف له ما أصاب فيه، وأن يدعى له بالمغفرة والرحمة، نعم، ولا يُجارى في خطأه.
وهذا كما قلت منهجٌ تربوي ينبغي أن يتحلى به طالب علم الحديث، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- معنا في قضايا أخرى في مثل آداب المحدث، وطالب الحديث، وغيرها ما يدل على مثل هذه الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب الحديث .
وأقول من أهم المهمات في طالب الحديث أن يكون عنده من العدل والإنصاف وتقدير الأمور بقدرها الشيء الذي يكفل له التوازن، وأن لا يكون منهجه منهج الخوارج الذين لا يعرفون إلا نظرة السوداوية، فلا ينظرون للمحاسن، ولا ينظرون إلا إلى المساوئ والمثالب، فهذا المنهج مهما طُبق، سواء طبق على الحكام، أو على عامة الناس، أو على العلماء، أو على طلبة العلم، والدعاة ونحو ذلك، فالمنهج هو المنهج لا يتغير ولا يختلف؛ لأن النظرة السوداوية هذه لا تقبل أن تذكر حسنات الشخص، أو تبرز هفواته وتُتبع وتُستل، وربما أُسيء الظن بكل ما يصدر منه، هذا هو منهج الخوارج شئنا أم أبينا، وسواء تسمى بهذا المنهج أُناس ينتسبون إلى السنة أو إلى غيرها .
فعلى سبيل المثال: نحن إذا أردنا أن نكون متبعين لسلف الأمة الصالحين يجب أن نأخذ منهجهم بكامله، ولا نركز على قضايا في أعصارٍ معينة، وصدرت من أشخاص معينين.
فعلى سبيل المثال: الإمام أحمد -رحمه الله- في عصره حصلت الفتنة المعروفة وهي فتنة خلق القرآن، ووقف الإمام أحمد -رحمه الله- من هذه الفتنة وممن أجاب فيها وإن كان مكرهًا- موقفًا معروفًا، لكن للإمام أحمد عذره، فبعض الناس يأخذ منهج الإمام أحمد ويريد أن يطبقه في كل العصور، وفي كل القضايا، هذا مستحيل؛ لأن الإمام أحمد -رحمه الله- أيضًا له مواقف أخرى، على سبيل المثال الإمام أحمد لا يرد رواية قتادة، بل يعد قتادة من كبار الأئمة، وقتادة ممن عُرف عنه القول بالقدر، الإمام أحمد لا يرد رواية الأعمش، بل يحتج بها ويعد الأعمش من كبار الأئمة، والأعمش فيه نوع تشيع.
البخاري -رحمه الله- احتج بعباد بن يعقوب الرواجلي، وعباد لو اطلعنا على كلامه في التشيع لرأينا العجب العجاب؛ ولذلك يقول ابن خزيمة- وهو من هو ابن خزيمة؟! ممن أصل في أصول الاعتقاد، ولا أحد يستطيع أن يتهمه بغير معتقد أهل السنة، ومع ذلك يقول ابن خزيمة: "حدثنا عباد بن يعقوب الثقة في حديثه المتهم في دينه"، يقصد المتهم في دينه؛ لأنه تناول بعض الصحابة -رضي الله عنهم- وقال أقوالا شنيعة، لكن عدل أئمة الحديث وإنصافهم تجلى في مثل هذه الموقف، تجلى في مثل معاملتهم لهذا الرجل، مع أنه موصوف بهذه الصفات التي تُستبشع، إلا أن عدلهم وإنصافهم يأبى عليهم إلا أن يأخذوا منه؛ لأنهم يعرفون أنه ثقة في حديثه، ولا يكذب، وجربوا عليه الصدق، فعليه بدعته ولنا حديثه وصدقه، ولذلك البخاري احتج بعمران بن حطان وهو الذي امتدح عبد الرحمن بن الملجم قاتل علي -رضي الله تعالى عنه، هو الذي قال "يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانًا" ، فيمتدح عبد الرحمن بن الملجم بهذه البدعة، ومع ذلك أخرج له البخاري في صحيحه، لماذا يخرج البخاري لهذا المبتدع؟ إنما أخرج له البخاري؛ لأنه يعرف أن هذا الرجل صادق لا يمكن أن يكذب، فعليه بدعته ولنا صدقه وأحاديثه التي أصاب فيها.
والكلام في هذا -أيها الإخوة- يطول؛ لذلك ينبغي أن نأخذ بمجمل أصول أهل السنة، بجميع معتقدهم، بجميع منهجهم، لا أن نأتي لبعض القضايا كما تفعل الفرق المبتدعة، الخوارج على سبيل المثال، لماذا ذلوا؟ لأنهم أخذوا بأي شيء؟ بأحاديث الوعيد، والمرجئة لماذا ضلوا أيضًا؟ لأنهم أخذوا بأحاديث الوعد، فكل هؤلاء لم يأخذوا بجميع النصوص الشرعية، وإنما اقتصروا على جزء وأخذوا جزءًا يناسب أهواءهم وما هم عليه من المعتقد.
وكذلك أيضًا من أخذ ببعض منهج أهل السنة ونبذ الباقي ففيه شبه من هذه الفرق المبتدعة، كما أن أهل السنة ليس هذا منهجهم في كل الأحيان، أحيانًا يكونون محتاجين للعالم، فإذا احتاجوا إليه يأخذون منه ما أصاب فيه، ويتركون ما أخطأ فيه، وينظرون أيضًا لمصلحة الأمة، فكانت هنالك فتنة وقعت في خراسان لأهل السنة لكنهم كانوا قلة في مقابل المبتدعة، ولذلك ما وقفوا ذلك الموقف الذي وقفه الإمام أحمد ومن كان معه في قتنة خلق القرآن في بغداد، ونحوها من البلدان، بل كان موقفهم غير ذلك الموقف تمامًا، موقفهم موقف المراعي للمصالح ودرأ المفاسد وهكذا.
الذي ينظر نظرة جزئية هذا إمام جاهل، وإمام متبع لهواه، فنصوص الشرع ومواقف أهل السنة ومنهج أهل السنة ينبغي أن يؤخذ بإجماله، فالإمام أحمد وغير الإمام أحمد كلهم أحباب إلى قلوبنا، فنأخذ من السلف الصالح كلهم ما أصابوا فيه، ومن اجتهد اجتهادًا فرديًّا هذا لا يُجارى في اجتهاده إلا خالفه أئمة آخرون، ويمكن أن يُحسن الظن في اجتهاده إذا وُجد أنه اجتهادًا معين .
الإمام أحمد هجر بعض أئمة أهل السنة : السبب أنهم أجابوا مكرهين في فتنة خلق القرآن، الله عذرهم في كتابه ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106]، ألا نعذرهم؟ الإمام أحمد موقفه هذا إنما هو لسبب معين ولمصحلة رآها، اجتهد في هذا، هل يُقال إن هذا منهج للإمام أحمد يجب أن يعامل به الجميع ؟ لا . هذا خطأ وموقفٌ شنيعٌ، فينبغي أن نتنبه لهذه القضايا، ولهذه المسألة كلامٌ كثير، لكن نخشى أن يأتي على درسنا، فلعلنا نبدأ في درس اليوم.
جزاكم الله خيرًا يا شيخ، لعلها قاعدة عزيزة ومنهج منصف، قاله في الواقع مؤمن آل فرعون عن موسى الكليم
هل أثَّر معتقد ابن حجر على مصنفاته ؟
ذكرتم -حفظكم الله: أن الحافظ قد يشمل شيئًا من التشيع وشيئًا من الأشعرية، وخالف أهل السنة والجماعة في بعض النقاط، هل أثَّر ذلك في تصنيف الحافظ ومؤلفاته؟
لاشك أن ما من إنسان يعتقد أن هذا الأمر الذي اجتهد فيه حق إلا وسيظهر في مصنفاته، ولذلك نجد لابن حزم كلام في قضية المبتدع، يقول "إن المبتدع لو سكت عن بدعته لقلنا إنه متهم في دينه"، يعني إذا كان يرى أن هذا حق فلابد أن يذكره، فإذا كتم الحق فمعنى ذلك: أنه متهمٌ في دينه، هذا الكلام قد يخالف بعض ما قاله أئمة الحديث من أهل المبتدع -وهذا سيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى- من أن المبتدع إذا كان لا يدعو إلى بدعته فهذا يمكن أن تقبل روايتهم بالإضافة إلى الشروط الأخرى، لكن ابن حزم يخالف في هذه القضية، يقول لا، ليس هذا حق؛ لأنه إن كان يعتقد أن هذا حق فيجب عليه أن ينطق به؛ ولذلك لا نعد هذا قادحًا في دينه.
فهذه القضايا اجتهادية بين العلماء كما نرى، فلابد أن يظهر شيءٌ من هذا في مصنفات الحافظ ابن حجر، ولذلك لا يقرأ في مثل هذه المصنفات والمطولات والأشياء التي تحتاج إلى فهم ثاقب إلا طالب علم متمكن يعرف ويدرك، وإذا أشكل شيءٌ على طالب العلم فعليه أن يسأل أهل العلم، ولذلك أحسن بعض الإخوة الأفاضل الذين حققوا فتح الباري للحافظ ابن حجر، وهو الذي يمكن أن يكون أكثر ما عنده موجودٌ في هذا الكتاب، أحسنوا بالتعليق على هذه المسائل التي يخالف فيها الحافظ -رحم الله الجميع.