الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فنحمد الله جلّ وعلا أن هيأ لنا هذه الفرصة في هذه القناة العلمية التي تتيح لنا التعلم عن بعد، وأصبح العالم كله يستطيع أن يشاهد هذه الدروس، وكأنهم في قاعة واحدةٍ، وهذا من فضل الله ومنته علينا، فعلينا أن نقوم بشكر الله جلّ وعلا على مثل هذه النعم التي أتاح لنا فيها هذه الفرص.
ونخبة الفكر كنت قد شرحتها في دورة سابقة، وعُرضت قبل فترة، ولكن رَغِبَ الأخوة القائمون على قناة المجد في إعادة هذا الشرح، ليتوافق مع برنامج هذه الأكاديمية المباركة إن شاء الله تعالى، فجرى تلبية هذا الطلب، سيعقب ذلك بإذن الله مراحل ومراحل، فنخبة الفكر معروفٌ أنها للمبتدئين، وهي عبارة عن متن مختصر في مصطلح الحديث، يُتلقى أول ما يُتلقى بالنسبة للطالب المبتدئ، ثم بعد ذلك يتلوه المتوسطات، ثم المطولات، إن أمد الله جلّ وعلا في العمر.
مؤلف هذا المتن هو :
الإمام الحافظ شيخ الإسلام أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد، هذا النسب ذكره الحافظ نفسه، وذكر أنه إذا عكسته أيضًا فإنه كأنك ابتدأت به من الأول، فعكسه أيضًا أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد، بعد ذلك يأتي نسبه الآخر، ابن محمود الكناني المصري العسقلاني الشافعي، ومحمود في نسبه مرات يقدمه الحافظ على أحمد الأخير، ومرات يؤخره، وكأنه متردد في هذه النقطة.
ولادته :
على كل حال، وُلد الحافظ رحمه الله قبل وفاة الحافظ ابن كثير بسنة .
ووفاة الحافظ ابن كثير كانت في سنة سبعمائة وأربعة وسبعين (774) للهجرة، وأما الحافظ فوُلد في سنة سبعمائة وثلاث وسبعين(773) للهجرة.
أبواه ، ويُتْمُه :
تُوفي والده وهو صغير وعمره أربع سنوات، ووالدته تُوفيت قبل ذلك، لكن لم يُتعرف على سنه على وجه التحديد حينما تُوفيت والدته، ولكن معنى ذلك أنها تُوفيت وعمره أقل من أربع سنوات، فنشأ رحمه الله يتيمًا، لكن ورث له والده مالا نفعه حينما كبر، وهذا المال أوصى عليه أبوه رحمه الله رجلين يثق بهما، أحدهما الخروبي والآخر ابن القطان، فقاما بالإنفاق على الحافظ ابن حجر.
طفولته ، وطلبه العلم :
ظهرت فيه النجابة منذ الصغر رحمه الله ، لذلك رحل وعمره قرابة أحد عشر عامًا، رحل إلى الحجاز، وكان قد حفظ القرآن وعمره تسع سنوات، وهذا دليلٌ على نجابته رحمه الله منذ الصغر .
حينما رحل إلى الحجاز، أمَّ المصلين في المسجد الحرام وعمره اثنا عشر عامًا، وهذا دليل أيضًا على نبوغه، وعلى أن مشايخه الذين في مكة تفرسوا فيه وعرفوا فيه النجابة، فلذلك قدموه ليصلي بهم.
مما يدل على نجابته رحمه الله أنه بدأ بالتأليف في وقتٍ مبكر، فهذا المتن الذي معنا والذي أُعجب به القاصي والداني ألفه وعمره لم يصل بعد إلى أربعين عامًا، كان تأليفه له في قرابة سنة اثني عشر وثمانمائة.
شيوخه :
حرص الحافظ رحمه الله على التلقي عن الشيوخ فرحل إلى البلدان، رحل إلى الحجاز، رحل إلى اليمن، رحل إلى مناطق كثيرة وتلقى فيها عن الشيوخ، وأخذ عن كبار شيوخ عصره، ومن أبرزهم :
الحافظ العراقي رحمه الله، وكذلك ابنه ولي الدين أبو زرعة ابن الحافظ العراقي، فهو حافظٌ ابن حافظ، كذلك أيضًا الحافظ ابن الملقن، فهو من أشياخه، كذلك الحافظ سراج الدين البلقيني صاحب محاسن الاصطلاح، ووفرة من المشايخ الذي كان لهم سيط ومعرفة بفنون شتى، وعلى وجه الخصوص في علم الحديث.
تنويعه في طلب العلم :
ولم يكن الحافظ رحمه الله مقتصرًا على علم الحديث فقط، بل ضرب في كل فنٍ بعصى، ولذلك كان فقيهًا ومفتيًا، وُلي القضاء رحمه الله، وتولى الفتوى، فمعرفته وإلمامه بعلومٍ شتى مكنه من أن يكون إمامًا بحقٍ رحمه الله.
الحافظ والنخبة :
لما ألف هذه النخبة، شكلت هذه النخبة عصارة فكر الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه، فاطلع على كتب من تقدمه ورأى ترتيبهم لأنواع علوم الحديث، فابتكر هذا الترتيب الرائع الذي يتسلسل بالمطلع عليه من الأعلى إلى الأدنى، كما سنراه إن شاء الله تعالى من خلال مسيرتنا العلمية مع هذه النخبة.
فترتيبه لم يُسبق إليه، وخالف فيه ترتيب الحافظ ابن الصلاح الذي اعتمده كل من جاء بعده، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى في مقدمة الحافظ ابن حجر، لما ألف هذه النخبة أُعجب بها أهل عصره من العلماء وطلبة العلم، ومن شدة إعجابهم بها إنهالت عليها الشروح، فلما رأى اهتمام القاصي والداني بشرح هذه النخبة بادر هو إلى شرحها، كما يقول في مقدمته، لأن صاحب البيت أدرى بما فيه، وكان الشمولي ممن سبقه إلى شرح هذه النخبة، فالحافظ ابتدأ في شرحها في سنة عشر وثمانمائة(810) فكأن الحافظ رحمه الله يشير إلى الشمولي وغيره ممن قام بشرح هذه النخبة، فكأنه يقول "هذه أنا الذي اختصرتها، وأنا الذي أحق أن أشرحها"، ولذلك قام بشرحها رحمه الله في شرحه الشهير المعروف بنزهة النظر.